موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري
نافذة على الفكر النقدي
لليهودية والصهيونية
في خضم الصراع العربي-الإسرائيلي، وما شاب ذلك
الصراع من اختزال وتبسيط للصورة، جاءت موسوعة المسيري لتقدم مقاربة منهجية وعلمية
تهدف إلى فصل الظواهر التاريخية والاجتماعية والسياسية عن الأساطير والخرافات. لقد
أمضى الدكتور المسيري، وهو مفكر مصري بارز وأستاذ للأدب الإنجليزي، سنوات طويلة من
عمره في هذا المشروع الضخم، الذي بلغ ثماني مجلدات، ليمثل إنجازًا معرفيًا فريدًا
من نوعه في العالم العربي.
طبيعة الموسوعة وأهدافها
تتميز موسوعة المسيري بكونها لا تكتفي بتقديم
معلومات مجردة، بل تسعى إلى تحليل الظواهر من خلال منظور نقدي متعدد الأبعاد. فهي
لا تنظر إلى اليهودية كظاهرة دينية بحتة، ولا إلى الصهيونية كحركة سياسية وحسب، بل
تتناول كليهما ضمن سياقاتهما التاريخية والاجتماعية والثقافية المعقدة. من أبرز
أهداف الموسوعة:
·
تفكيك
الخطاب الصهيوني: تسعى الموسوعة إلى كشف التناقضات والثغرات في
الخطاب الصهيوني، وإظهار كيف تم توظيف مفاهيم مثل "الشعب المختار"
و"أرض الميعاد" لخدمة أجندات سياسية واستعمارية.
·
تمييز
اليهودية عن الصهيونية: يقدم المسيري تمييزًا جوهريًا بين اليهودية كدين
وتراث ثقافي، والصهيونية كحركة سياسية قومية علمانية. هذا التمييز ضروري لتجنب
الخلط بين المجموعات السكانية اليهودية المتنوعة في العالم والحركة الصهيونية التي
لا تمثل بالضرورة جميع اليهود.
·
تقديم
نموذج تحليلي جديد: يطوّر المسيري داخل الموسوعة نموذجًا تحليليًا
خاصًا به، يقوم على مفهوم "النماذج المركبة" و"النماذج
الكامنة". يتيح هذا النموذج فهمًا أعمق للظواهر المعقدة وكيف تتفاعل الأبعاد
الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية لتشكيلها.
·
دراسة
اليهود كجماعات وظيفية: يتناول المسيري اليهود ليس فقط كجماعات دينية، بل
أيضًا كـ"جماعات وظيفية" تاريخية، أي جماعات لعبت أدوارًا محددة في
سياقات اقتصادية واجتماعية معينة، خاصة في أوروبا. هذا التحليل يساعد على فهم
طبيعة وجودهم وعلاقاتهم بالمجتمعات المحيطة.
منهجية الدكتور المسيري
اعتمد الدكتور المسيري في موسوعته على منهجية
صارمة وموسوعية، تمثلت في:
·
الشمولية: غطت
الموسوعة نطاقًا واسعًا من الموضوعات، من تاريخ اليهود القديم والحديث، إلى
الفلسفات اليهودية، والحركات الدينية والسياسية، وصولاً إلى تحليل المجتمع
الإسرائيلي المعاصر.
·
النقد
العميق: لم يكتف المسيري بسرد الحقائق، بل قدم تحليلاً
نقديًا معمقًا للمصادر والمفاهيم، وكشف عن التحيزات والأجندات الخفية.
·
الاعتماد
على مصادر متنوعة: استندت الموسوعة إلى مئات المراجع العربية
والأجنبية، بما في ذلك المصادر العبرية والوثائق التاريخية.
·
البعد
الحضاري: لم تكن الموسوعة مجرد دراسة تاريخية أو سياسية،
بل اتخذت بعدًا حضاريًا أعمق، حيث ربطت الظواهر اليهودية والصهيونية بسياقات
الحضارة الغربية والشرقية.
أقسام الموسوعة وموضوعاتها الرئيسية
تتألف الموسوعة من ثمانية مجلدات ضخمة، تُقسم في مجملها إلى عدة أقسام
رئيسية تتناول جوانب متعددة من الظاهرة اليهودية والصهيونية. يبدأ المسيري بتقديم "المدخل" الذي يوضح منهجه في التعامل مع هذه القضايا، مؤكداً على أن اليهودية كدين
والصهيونية كحركة سياسية هما ظاهرتان بشريتان يمكن فهمهما وتحليلهما علمياً. ينتقل
بعد ذلك إلى تناول "اليهودية" كدين وتاريخ، مستعرضًا الفرق بين اليهودية كديانة
سماوية واليهود كجماعات بشرية متنوعة عاشت في سياقات تاريخية وجغرافية مختلفة.
يُفصّل في هذا القسم الفروق بين التصورات الدينية لليهودية والتكوينات الاجتماعية
والثقافية لليهود عبر العصور.
الجزء الأكبر من الموسوعة مخصص لـ**"الصهيونية"، حيث يحلل المسيري الأصول الفكرية والتاريخية للحركة الصهيونية،
ويكشف عن علاقتها بالفكر الغربي الحديث، وخاصة حركات القومية والعلمانية
والاستعمارية. لا يكتفي بعرض الأحداث التاريخية، بل يتعمق في تحليل الخطاب
الصهيوني وتفكيك مفاهيمه الأساسية مثل "الشعب المختار" و"أرض
الميعاد"، موضحًا كيف تم توظيف هذه المفاهيم لأغراض سياسية واستعمارية. كما
تتناول الموسوعة في أقسامها المتأخرة قضايا مثل "العلاقات العربية الإسرائيلية" و"الإعلام الغربي والقضية الفلسطينية"** و**"المصطلح
الصهيوني"**، مقدمةً رؤى نقدية حول هذه الموضوعات.
كل مجلد يتناول
موضوعا منفردا
المجلد الاول:
الإطار النظري
المجلد الثاني:
الجماعات اليهودية: إشكاليات
المجلد الثالث:
الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة
المجلد الرابع:
الجماعات اليهودية: تواريخ
المجلد الخامس: اليهودية:
المفاهيم والفرق
المجلد السادس:
الصهيونية
المجلد السابع: إسرائيل:
المستوطن الصهيوني
المجلد الثامن:
الفهارس
أثر الموسوعة وتحليل نقدي
لقد أحدثت موسوعة المسيري تأثيرًا عميقًا في الأوساط الأكاديمية والفكرية،
ليس فقط في العالم العربي بل أيضًا على المستوى الدولي. تكمن أهمية الموسوعة في
أنها قدمت نموذجًا فريدًا للبحث العلمي الرصين، بعيدًا عن التناول العاطفي أو
الأيديولوجي للقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي. تميزت الموسوعة بـالمنهجية
الموسوعية الشاملة التي جمعت بين التحليل التاريخي والسوسيولوجي
والأنثروبولوجي والفلسفي، مما أتاح للقارئ فهمًا متعدد الأبعاد للظواهر المدروسة.
من أبرز إسهامات المسيري في هذه الموسوعة هو تفكيكه لمفهوم "الشعب
اليهودي" كتكوين واحد متجانس، مؤكدًا على أن اليهود ليسوا عرقًا واحدًا
بل تجمعات بشرية متنوعة، تفرقت في أنحاء العالم وتأثرت بالثقافات التي عاشت فيها.
هذا التفكيك كان ثوريًا في وقته، إذ تحدى السردية الصهيونية التي تقوم على فكرة
"شعب يهودي واحد يعود إلى وطنه التاريخي". كما انتقد المسيري بحدة "النموذج الكامن" الذي يفترض وجود جوهر ثابت لليهودية أو الصهيونية، مؤكدًا على أن كلتا
الظاهرتين تاريخيتان وديناميكيتان تتغيران وتتطوران عبر الزمن.
ومع ذلك، لا تخلو الموسوعة من بعض النقاط التي قد يرى البعض أنها تستدعي
النقاش. فقد يرى البعض أن حجم الموسوعة الكبير قد يجعلها صعبة المنال على القارئ
غير المتخصص. كما أن إصرار المسيري على منهجه "العلماني الشامل" قد يثير
تساؤلات حول مدى إمكانية فصل الظواهر الدينية تمامًا عن سياقاتها الروحية، رغم أن
المسيري نفسه يوضح أن العلمانية التي يتبناها هي منهج تحليلي وليست إيديولوجية
ترفض الدين.
تجاوز تأثير موسوعة المسيري الأوساط الأكاديمية،
لتصبح مرجعًا أساسيًا للعديد من المفكرين والباحثين والجمهور العام في العالم
العربي. لقد ساهمت في:
·
تصحيح
المفاهيم الخاطئة: قدمت الموسوعة بديلاً للصور النمطية والمفاهيم
المغلوطة المنتشرة عن اليهودية والصهيونية.
·
تعزيز
الفكر النقدي: شجعت الموسوعة على التفكير النقدي وعدم قبول
الخطابات السائدة دون تمحيص.
·
إثراء
النقاش الفكري: فتحت الموسوعة آفاقًا جديدة للنقاش والبحث حول
قضايا الهوية والانتماء والعلاقة بين الدين والسياسة.
اقتباسات من الموسوعة
تزخر الموسوعة بالكثير من الاقتباسات العميقة التي تلخص جوهر فكر المسيري.
من أبرز ما قاله:
- "إن
اليهودية ليست عرقاً، بل هي مفهوم تاريخي تشكل عبر مراحل مختلفة، ولا يمكن
اختزالها في عرق واحد." هذا الاقتباس
يلخص جوهر منهج المسيري في تفكيك الأسطورة الصهيونية حول "الشعب
اليهودي" المتجانس.
- "الصهيونية
ليست يهودية بالضرورة، بل هي حركة سياسية عصرية استلهمت من بعض النصوص
الدينية لتبرير مشروعها الاستيطاني."
يؤكد هذا
الاقتباس على أن الصهيونية هي ظاهرة سياسية حديثة لها أبعادها العلمانية،
وليست امتدادًا طبيعيًا للدين اليهودي.
- "إن
الخلاص الحقيقي يكمن في تجاوز الخطاب الكلياني الذي يفترض وجود حلول شاملة
ونهائية، والاعتراف بتعقيد الواقع وتناقضاته."
هذا يعكس
الفلسفة الكامنة وراء منهجه النقدي الذي يرفض التنميط والتبسيط.
نبذة عن الكاتب وخاتمة
الدكتور عبد الوهاب المسيري (1938-2008)
كان مفكرًا مصريًا بارزًا، وأستاذًا للأدب الإنجليزي
واليهودية والصهيونية. ولد في دمنهور، وتخرج في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة
الإسكندرية. حصل على الماجستير من جامعة كولومبيا والدكتوراه من جامعة روتجرز
بالولايات المتحدة الأمريكية. عُرف المسيري بمنهجه النقدي الفريد، وإسهاماته
الفكرية المتعمقة في مجالات الحضارة الغربية والفلسفة والسياسة، إلى جانب مشروعه
الموسوعي الضخم. كان المسيري يؤمن بأن الفهم العميق للظواهر المعقدة يتطلب تجاوز
السطح والغوص في الجذور الفكرية والتاريخية.
في الختام، تُعد موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للدكتور عبد الوهاب
المسيري إنجازًا فكريًا ضخمًا، تجاوز كونه مجرد عمل بحثي ليكون مشروعًا حضاريًا
متكاملاً. لقد قدمت هذه الموسوعة أداة معرفية بالغة الأهمية لفهم الظاهرة
الصهيونية بعمق وتفكيك خطابها، وأسهمت في إثراء النقاش الفكري حول اليهودية كظاهرة
دينية وتاريخية. إنها دعوة للتفكير النقدي والتحليلي، وشهادة على قوة الفكر في
مواجهة الأيديولوجيات السائدة وتقديم رؤى بديلة تسهم في بناء وعي أعمق وأكثر
شمولاً.