نشأة العنف المنظم: تاريخ العصابات الصهيونية في فلسطين تحت الانتداب البريطاني وحتى تأسيس دولة الاحتلال إسرائيلي
إن تاريخ العصابات الصهيونية في فلسطين تحت
الانتداب البريطاني يمثل فصلًا دمويًا ومثيرًا للجدل في تاريخ المنطقة. فهم نشأة
هذه الجماعات الإرهابية وأهدافها وأساليب عملها وعلاقتها بتأسيس دولة الاحتلال إسرائيلي
أمر ضروري لفهم جذور الاحتلال الإسرائيلي المستمر حتى اليوم.
شهدت فترة الانتداب البريطاني على فلسطين
(1920-1948) تصاعدًا مطردًا في العنف المنظم الذي مارسته جماعات صهيونية مسلحة،
التي تطورت من منظمات دفاعية أولية إلى عصابات شبه عسكرية لعبت دورًا محوريًا في
تأسيس دولة الاحتلال إسرائيلي عام 1948. هذه الجماعات، التي نشأت في سياق تزايد
الهجرة اليهودية إلى فلسطين في سياق سعي الحركة الصهيونية لإقامة وطن قومي لليهود
في فلسطين، واعتبرت العنف أداة ضرورية لتحقيق هذا الهدف في مواجهة الوجود العربي
الفلسطيني والقيود التي فرضتها سلطات الانتداب البريطاني. وتصاعد التوترات مع السكان الفلسطينيين العرب، تبنت أساليب قتالية
متزايدة العنف ونفذت عمليات إرهابية وجرائم بشعة ضد المدنيين الفلسطينيين لتحقيق
أهدافها السياسية.
مقدمة تاريخية عن أصول المقاتلين الصهاينة
تعود الجذور الأولى للعنف المنظم الصهيوني إلى أوائل القرن العشرين مع تأسيس منظمة "هاشومير" (الحارس) عام 1909. في عام 1920، تأسست منظمة "الهاجاناه" (الدفاع) لتكون الذراع العسكرية السرية لمنظمة الهستدروت (الاتحاد العام للعمال اليهود في فلسطين). كانت "الهاجاناه" في البداية قوة دفاعية في الأساس، تهدف إلى حماية التجمعات اليهودية من الهجمات العربية. ومع ذلك، تطورت تدريجيًا لتصبح قوة شبه عسكرية أكثر تنظيمًا وتدريبًا، وقامت بتنفيذ عمليات إرهابية ضد الفلسطينيين.
بدايات التنظيمات المسلحة الصهيونية نشأة مع تأسيس الاستيطان اليهودي
الحديث في فلسطين. ففي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومع تزايد
أعداد المهاجرين اليهود القادمين من أوروبا، ظهرت حاجة إلى تنظيمات للدفاع عن
المستوطنات الزراعية الناشئة في وجه هجمات قطاع الطرق والعصابات العربية.
- هاشومير (الحارس): تأسست عام 1909،
وكانت أول منظمة دفاعية يهودية منظمة في فلسطين. اعتمدت على شبكة من الحراس
المدربين لحماية المستوطنات الزراعية. (Lapidot, 2012) كانت
"هاشومير" قوة دفاعية صغيرة وغير رسمية مهمتها حراسة المستوطنات
اليهودية المبكرة وحماية الأراضي الزراعية من هجمات البدو والعرب
الفلسطينيين. ومع ازدياد التوترات وتوسع المستوطنات، ظهرت الحاجة إلى قوة
دفاعية أكثر مركزية ووطنية.
- الهاجاناه (الدفاع): تأسست عام 1920
كقوة دفاعية سرية وأكثر مركزية، انبثقت عن "هاشومير" ومنظمات أخرى
أصغر. كانت تهدف في البداية إلى الدفاع عن الممتلكات والأرواح اليهودية،
وتطورت تدريجيًا لتصبح قوة شبه عسكرية أكثر تطورًا. (Shalev, 2004)
مع تصاعد العنف والاضطرابات في فلسطين خلال فترة الانتداب، انقسمت الحركة
الصهيونية حول طبيعة الرد على التحديات الأمنية والسياسية. ظهرت فصائل أكثر تشددًا
انتقدت سياسة "الدفاع الذاتي" التي اتبعتها "الهاجاناه" ودعت
إلى تبني استراتيجية أكثر هجومية.
تصاعد التطرف والإرهاب الصهيوني: "الأرجون"
و"ليحي"
في ثلاثينيات
وأربعينيات القرن العشرين، ظهرت جماعات صهيونية أكثر تطرفًا وانشقاقًا عن
"الهاجاناه"، تبنت أيديولوجية أكثر عدوانية ودعت إلى استخدام العنف بشكل
مباشر ضد البريطانيين والفلسطينيين لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية.
- الإرجون (المنظمة العسكرية الوطنية): تأسست عام
1931، وكانت تعرف اختصارًا باسم "الأرجون". انشقت
عن "الهاجاناه" في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي بسبب
خلافات حول سياسة الرد على الهجمات العربية.. تبنت الأرجون أيديولوجية قومية متطرفة ودعت إلى استخدام الإرهاب ضد
أهداف مدنية وعسكرية بريطانية وفلسطينية، واعتبرت أن العنف هو الوسيلة الأكثر
فعالية لتحقيق الاستقلال وإقامة الدولة اليهودية في كامل أرض فلسطين التاريخية. أشهر زعماء
"الأرجون" كانوا شخصيات بارزة مثل زئيف جابوتنسكي ومناحم بيغن.
- ليحي (مقاتلو حرية إسرائيل - عصابة شتيرن): كانت مجموعة أصغر وأكثر تطرفًا عُرفت
اختصارًا باسم "ليحي" أو "عصابة شتيرن" نسبة إلى مؤسسها
أفراهام شتيرن. كانت "ليحي" منظمة سرية، تبنت ليحي أيديولوجية ثورية. ودعت إلى
الكفاح المسلح ضد البريطانيين حتى طردهم من فلسطين، بغض النظر عن موقف الحركة
الصهيونية الرسمية. نفذت "ليحي" العديد من العمليات الإرهابية والاغتيالات
والتفجيرات ضد أهداف بريطانية وفلسطينية.
واستهدفت
مسؤولين بريطانيين وعربًا. (Heller, 1995)
أهم الأحداث التاريخية
شهدت فترة الانتداب البريطاني العديد من الأحداث التي شكلت تطور ونشاط
العصابات الصهيونية:
- ثورة البراق (1929): أدت الاشتباكات
بين الفلسطينيين واليهود حول حائط البراق في القدس إلى موجة من العنف في جميع
أنحاء فلسطين، مما عزز الحاجة إلى تنظيمات دفاعية يهودية أقوى. (Segev, 1998)
- الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939): كانت انتفاضة واسعة النطاق ضد الحكم البريطاني والهجرة اليهودية. ردت
"الهاجاناه" بتعاون محدود مع السلطات البريطانية في قمع الثورة،
بينما نفذت الأرجون عمليات إرهابية انتقامية ضد المدنيين الفلسطينيين والعرب . (Khalidi, 1997)
- الحرب العالمية الثانية (1939-1945): تطوع الآلاف من شباب "الهاجاناه" للخدمة في الجيش
البريطاني. في المقابل، نفذت الأرجون وليحي عمليات ضد المصالح البريطانية في
فلسطين بعد الحرب، معتبرة أن بريطانيا تعيق تحقيق أهداف الحركة الصهيونية. (Sachar, 2006)
- قرار التقسيم (1947): أوصت الأمم
المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية. قبلت القيادة الصهيونية
بالقرار على مضض، بينما رفضه الفلسطينيون والدول العربية. أدى القرار إلى
تصاعد العنف بين الجانبين. (Morris, 2008)
- حرب 1948 (حرب الاستقلال الإسرائيلية / النكبة الفلسطينية): اندلع القتال
الشامل بعد إعلان قيام دولة الاحتلال إسرائيلي في مايو 1948. لعبت العصابات
الصهيونية، التي تم دمج معظمها لاحقًا في جيش الاحتلال الإسرائيلي، دورًا
حاسمًا في القتال والاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية. (Pappé, 2006)
- الخطة "دالت": تعتبر الخطة الرئيسية التي وضعتها الحركة الصهيونية لاحتلال فلسطين وتطهيرها ،عرقياً، تم تبنيها في شهر مارس 1948. ركزت الخطة أساسا على المراكز الحضرية في فلسطين، والتي اكتمل احتلالها جميعاً مع نهاية نيسان/أبريل، ليقتلع خلالها 250 ألف فلسطيني من أرضهم عبر مجازر كان أشهرها مجزرة دير ياسين.
المجازر التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين
خلال فترة الانتداب وحرب 1948، ارتكبت العصابات الصهيونية العديد من
المجازر الإرهابية ضد الفلسطينيين المدنيين زادت عن خمس وثلاثون مجزة كبيرة، بالإضافة إلى العديد من عمليات القتل المحدودة والمتفرقة. هذه الأحداث تركت ندوبًا عميقة في
الذاكرة الفلسطينية وأثرت بشكل كبير على مسار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي
الفلسطينية. من أبرز هذه المجازر:
·
تفجير
فندق الملك داود (1946): قامت
منظمة "الأرجون" بتفجير الجناح الجنوبي لفندق الملك داود في القدس، الذي
كان يضم مكاتب الإدارة البريطانية وقوات الأمن. أسفر التفجير عن مقتل العشرات من
البريطانيين والعرب واليهود.
·
اغتيال
اللورد موين (1944): قامت
منظمة "ليحي" باغتيال اللورد موين، الوزير البريطاني المقيم في الشرق
الأوسط، في القاهرة.
- مذبحة دير ياسين (أبريل 1948): هاجمت قوات من الأرجون وليحي قرية دير ياسين بالقرب من القدس وقتلت ما
يقدر بنحو 100 إلى 250 مدنيًا فلسطينيًا، بينهم نساء وأطفال وكبار السن.
أثارت هذه المذبحة الرعب بين الفلسطينيين وساهمت في موجة نزوح واسعة. (Milstein, 2004)
- مذبحة اللد والرملة (يوليو 1948): خلال عملية "داني"، قامت القوات الإسرائيلية بطرد عشرات
الآلاف من سكان مدينتي اللد والرملة. ونفذت العصابات الصهيونية عدد من
الإعدامات الجماعية الميدانية ضد المدنيين الفلسطينيين بعد الاستيلاء على
المدينتين. (Morris, 2004)
- مذبحة الدوايمة (أكتوبر 1948): خلال عملية "يواف"، يُزعم أن جنودًا إسرائيليين قتلوا عشرات
المدنيين الفلسطينيين في قرية الدوايمة في منطقة الخليل. (Masalha, 2003)
هناك روايات وتقارير أخرى عن حوادث قتل جماعي وعمليات تطهير عرقي نفذتها
العصابات الصهيونية خلال حرب 1948، لكن حجم هذه الأحداث وتفاصيلها لا تزال موضع
نقاش وجدل بين المؤرخين.
القرى الفلسطينية التي تم مهاجمتها
خلال حرب 1948، شنت العصابات الصهيونية حملة إرهابية وحشية واسعة النطاق
استهدفت القرى والبلدات الفلسطينية. كان الهدف من هذه الهجمات في كثير من الأحيان
هو ترويع السكان الفلسطينيين ودفعهم إلى النزوح، بالإضافة إلى تأمين المناطق التي
تم الاستيلاء عليها. تشير التقديرات إلى أن أكثر من 400 قرية وبلدة فلسطينية تم
تدميرها أو الاستيلاء عليها خلال هذه الفترة.
(Khalidi, 1992)
من بين القرى الفلسطينية التي تعرضت للهجوم والتدمير أو التهجير القسري
لسكانها:
- يافا وضواحيها: تعرضت المدينة
والعديد من قراها المحيطة لهجمات مكثفة قبل وأثناء حرب 1948، مما أدى إلى
تهجير معظم سكانها العرب.
- منطقة الجليل: شهدت العديد من
القرى في الجليلين الشرقي والغربي عمليات عسكرية أدت إلى تدميرها وتهجير
سكانها.
- الساحل الفلسطيني: تم الاستيلاء
على العديد من القرى الساحلية وتدميرها أو تهجير سكانها، مثل الطنطورة والزيب.
- منطقة القدس: تعرضت القرى
الواقعة في محيط القدس لهجمات، بما في ذلك دير ياسين والقسطل.
- اللد والرملة: تم الاستيلاء
على المدينتين وتهجير معظم سكانهما العرب.
دور العنف في تأسيس دولة إسرائيل
·
لعبت
العصابات الصهيونية دورًا محوريًا في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 وفي
تأسيس دولة الاحتلال إسرائيلي. ساهمت العمليات العسكرية التي نفذتها هذه العصابات
في إضعاف القوات الفلسطينية وبث الرعب في صفوف المدنيين، مما أدى إلى نزوح أعداد
كبيرة منهم. كما ضغطت هذه الجماعات على سلطات الانتداب البريطاني وساهمت في تسريع
قرار بريطانيا بالانسحاب من فلسطين.
· بعد قيام دولة الاحتلال إسرائيلي عام 1948، تم دمج معظم أفراد "الهاجاناه" في الجيش الإسرائيلي الناشئ. أما "الإرجون" و"ليحي" فقد تم حلهما رسميًا، على الرغم من أن بعض أعضائهما استمروا في لعب أدوار مهمة في الحياة السياسية والعسكرية الإسرائيلية
.المصادر:
- Bell, J. B. (1977). Terror out of Zion: Irgun Zvai Leumi, LEHI,
and the Palestine underground, 1929-1949. St. Martin's Press.
- Heller, J. (1995). The Stern Gang: Ideology, politics and terror,
1940-1949. Frank Cass.
- Khalidi, W. (1992). All That Remains: The Palestinian Villages
Occupied and Depopulated by Israel in 1948. Institute for Palestine
Studies. 1
- Khalidi, R. (1997). Palestinian Identity: The Construction of
Modern National Consciousness. Columbia University Press.
- Lapidot, Y. (2012). Hashomer: The First Jewish Defense
Organization in Palestine. Bar-Ilan University Press. (بالعبرية)
- Masalha, N. (2003). The Politics of Denial: Israel and the
Palestinian Refugee Problem. Pluto Press.
- Milstein, B. (2004). History of the War of Independence IV: Out
of Crisis Came Decision. Zmora-Bitan. (بالعبرية)
- Morris, B. (2004). The Birth of the Palestinian Refugee Problem
Revisited. Cambridge University Press.
- Morris, B. (2008). 1948: A History of the First Arab-Israeli War.
Yale University Press.
- Pappé, I. (2006). The Ethnic Cleansing of Palestine.
Oneworld Publications.
- Sachar, H. M. (2006). A History of Israel: From the Rise of
Zionism to Our Time. Vintage Books.
- Segev, T. (1998). 1949: The First Israelis. Henry Holt and
Company.